كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وما يأتيهم} أي: الكفار {من ذكر} أي: موعظة أو طائفة من القرآن يذكروننا به فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي: الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي: بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به وأشار تعالى إلى دوام كبرهم بقوله تعالى: {إلا كانوا عنه معرضين} أي: إعراضًا هو صفة لهم لازمة، ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال تعالى.
{فقد} أي: فتسبب عن هذا الفعل منهم أنه قد {كذبوا} أي: بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمنًا في قوله تعالى: {وسيأتيهم} أي: إذا مسهم عذاب الله تعالى يوم بدر ويوم القيامة {أنباء} أي: عظيم أخبار وعواقب {ما} أي: العذاب الذي {كانوا به يستهزؤن} أي: يهزئون من أنه كان حقًا أو باطلًا وكان حقيقًا بأن يصدق ويعظم أمره أو يكذب فيستخف أمره.
ثم قال تعالى معجبًا منهم: {أو لم يروا إلى الأرض} أي: على سعتها واختلاف نواحيها، ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف بقوله تعالى: {كم أنبتنا} أي: بما لنا من العظمة {فيها} بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات فيها {من كل زوج} أي: صنف متشاكل بعضه لبعض فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه {كريم} أي: كثير المنافع محمود العواقب وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى وهو ضدّ اللئيم، وههنا يحتمل معنيين أحدهما: النبات على نوعين: نافع وضار فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار، والثاني: أن يعم جميع النبات نافعه وضاره ويصفهما جميعًا بالكرم وينبه على أنه تعالى ما أنبت شيًا إلا فيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلًا إلا لحكمة بالغةٍ وإن غفل عنها الغافلون ولم يتصل إلى معرفتها العاقلون، ولما كان ذلك باهرًا للعقل منبهًا له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه وبديع اختياره، وصل به قوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم {لآية} أي: دلالة على كمال قدرته تعالى، فإن قيل: حين ذكر الأزواج دل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال إنّ في ذلك لآية؟ وهلا قال لآيات؟
أجيب بوجهين: أحدهما: أن يكون ذلك مشارًا به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال: إنّ في ذلك الإنبات لآية، ثانيهما: أن يراد أنّ في كل واحد من تلك الأزواج لآية {و} الحال أنه {ما كان أكثرهم} أي: البشر {مؤمنين} في علم الله تعالى وقضائه فلذلك لا ينفعهم مثل هذه الآيات العظام، وقال سيبويه: كان زائدة.
{وإن} أي: والحال أنّ {ربك} أي: الذي أحسن إليك بالإرسال وسخر لك قلوب الأصفياء وزوى عنك اللد والأشقياء {لهو العزيز} أي: ذو العزة ينتقم من الكافرين {الرحيم} يرحم المؤمنين، ولما كان مع ما ذكر في ذكر القصص تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب وكان موسى عليه السلام قد اختص بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أحد قبله، بدأ بذكره فقال تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {نادى ربك} أي: المحسن إليك بكل ما يمكن الإحسان به في هذه الدار، ثم ذكر المنادى بقوله تعالى: {موسى} أي: حين رأى الشجرة والنار، واختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام أهو الكلام القديم أو صوت من الأصوات؟.
قال أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنه: هو الكلام القديم فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دال على أنها معلومة ومرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع.
وقال الماتريدي: هو من جنس الحروف والأصوات، وأما المعتزلة: فقد اتفقوا على أن ذلك النداء كان بحروف وأصوات علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزًا علم به موسى أن الله تعالى مخاطبًا له فلم يحتج مع ذلك لواسطة، ثم ذكر تعالى ما له النداء بقوله تعالى: {أن} أي: بأن {أئت القوم} أي: الذين فيهم قوة وأيًّ قوة {الظالمين} رسولًا، ووصفهم بالظلم لكفرهم، واستبعادهم بني إسرائيل وذبح أولادهم وقوله تعالى: {قوم فرعون} أي: معه بدل أو عطف بيان للقوم الظالمين، وقوله تعالى: {ألا يتقون} استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجبًا من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم لم يقبل.
{قال رب} أي: أيها الرفيق بي {إني أخاف أن يكذبون} أي: فلا يترتب على إتياني إليهم أثر فاجعل لي قبولًا ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون.
{ويضيق صدري} من تكذيبهم لي {ولا ينطلق لساني} بأداء الرسالة للعقدة التي فيه بواسطة تلك الجمرة التي لذعته في الطفولية {فأرسل} أي: فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر طلب الإرسال {إلى هارون} أخي ليكون لي عضدًا على ما أمضي له من الرسالة، فيحتمل أن تكون تلك العقدة باقية عند الرسالة، وأن تكون قد زالت عند الدعوة، ولكن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهارون كان بتلك الصفة فأراد أن يقرن به، ويدل عليه قوله تعالى: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا}.
ومعنى فأرسل إلى هارون: أرسل إليه جبريل واجعله نبيًا وأزرني به واشدد به عضدي، وهذا الكلام مختصر وقد بسطه في غير هذا الموضع وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فأرسل إلى هارون} فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى: {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرًا} [الفرقان].
حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم.
فإن قيل: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره ربه بأمر فلا يقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله تعالى عليم بحاله؟
أجيب: بأنه قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذرًا فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلًا على التقبل لا على التعلل، ثم زاد في الاعتذار في طلب العون خوفًا من أن يقتل قبل تبليغ الرسالة بقوله: {ولهم علي ذنب} أي: تبعه ذنب فحذف المضاف، أو سمى باسمه كما يسمى جزاء السيئة سيئة وهو قتله القبطي وسماه ذنبًا على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. {فأخاف} بسبب ذلك {أن يقتلون} أي: يقتلونني به.
{قال} الله تعالى {كلا} أي: ارتدع عن هذا الكلام فإنه لا يكون شيءُ، مما خفت لا قتل ولا غيره، وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام عليه من الصدق من البراهين المقوية لصاحبها الشارحة لصدره العلية لأمره عدّ عدمًا، وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك.
{فاذهبا} أي: أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتك به مؤيدين {بآياتنا} الدالة على صدقكما.
تنبيه:
{فاذهبا} عطف على ما دلّ عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك بآياتنا {إنا} أي: بما لنا من العظمة {معكم مستمعون} أي: سامعون لأنه تعالى لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، ومنه قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبًا} [الجن].
ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه: أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» وهو الكحل المذاب ويروى: البيرم وهو بزيادة الياء، فإن قيل: لم قال معكم بلفظ الجمع وهما اثنان؟
أجيب: بأنه تعالى أجراهما مجرى الجمع تعظيمًا لهما، أو معكما ومع بني إسرائيل يسمع ما يجيبكم فروعون.
{فأتيا} أي: فتسبب عن ذهاب ما ذكرت بالحراسة والحفظة أني أقول لكما ائتيا {فرعون} نفسه وإن عظمت مملكته وجلت جنوده {فقولا} أي: ساعة وصولكما له ولمن عنده {إنا رسول رب العالمين} أي: المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم مصالحهم، فإن قيل: هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله تعالى: {إنا رسولا ربك}؟ [طه] أجيب: بأن الرسول يكون بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وأما هاهنا فهو إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة والمصدر يوحد ومن مجيء رسول بمعنى الرسالة قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ** بسرّ ولا أرسلتهم برسول

أي: برسالة، والواشون الساعون بالكذب عند ظالم وما فهت بمعنى ما تكلمت، وإما لأنهما ذوا شريعة واحدة فنزلا منزلة رسول، وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما فصارا كالشيئين المتلازمين كالعينين واليدين، وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع تقول العرب هذا رسولي ووكيلي وهذان رسولي ووكيلي وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال تعالى: {وهم لكم عدوّ}، ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبرًا بأداة التفسير، لأنّ الرسول فيه بمعنى الرسالة التي تتضمن القول.
{أن} أي: بأن {أرسل} أي: خل وأطلق، وأعاد الضمير على معنى رسول فقال: {معنا بني إسرائيل} أي: قومنا الذين استعبدتهم ظلمًا ولا سبيل لك عليهم نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله تعالى بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفًا، ويروى أن موسى رجع مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه ومكتل معلق في رأس العصا وفيه زاده فدخل داره نفسه وأخبر هارون بأن الله تعالى أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك حتى ندعو فرعون إلى الله تعالى، فخرجت أمهما وصاحت، وقالت إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع بقولها: وذهبا إلى باب فرعون ليلًا ودقا الباب ففزع البوابون وقالوا من بالباب، وروي أن البواب اطلع عليهما وقال من بالباب ومن أنتما؟ فقال موسى أنا رسول رب العالمين فذهب البواب إلى فرعون وقال إن مجنونًا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون ائذن له لعلنا نضحك منه، وقيل: لم يؤذن لهما إلى سنة فدخلا عليه وأديا رسالة الله عز وجل فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فلما عرفه.
{قال} له منكرًا عليه {ألم نربك} حذف، فأتيا فرعون فقالا له ذلك لأنه معلوم لا يشتبه وهذا النوع من الاختصار كثير في القرآن {فينا} أي: في منازلنا {وليدًا} أي: صغيرًا قريبًا من الولادة بعد فطامه {ولبثت فينا} أي: في عزنا باعتبار انقطاعك إلينا وتعززك بنا {من عمرك سنين} ثلاثين سنة فما لنا عليك من الحق ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدّة مقامه عنده بأنها كانت نكدة لأنه وقع فيما كان يخافه وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال، وكان موسى يلبس من ملابس فرعون ويركب من مراكبه وكان يسمى ابنه، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء، والباقون بالإدغام، ولما ذكره ما يحمله على الحياء منه ذكره ذنبًا يخاف من عاقبته فقال مهولًا له بالكناية.
{وفعلت فعلتك} أي: من قتل القبطي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيرًا إلى أنه عامله بالحلم تخجيلًا له فقال: {التي فعلت وأنت} أي: والحال أنك {من الكافرين} قال الحسن والسدي من الكافرين بإلهك ومعناه: على ديننا هذا الذي تعيبه، وقال أكثر المفسرين أي: الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد يقول ربيناك فكافأتنا أن قتلت منا نفسًا وكفرت بنعمتنا وهذا رواية العوفي عن ابن عباس: وقال إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.
{قال} له موسى مجيبًا على طريقة النشر المشوش واثقًا بوعد الله تعالى بالسلامة {فعلتها إذًا} أي: إذ قتلته {وأنا من الضالين} أي: من الجاهلين بأنّ ذلك يؤدّي إلى قتله، أو المخطئين كمن يقتل خطًا من غير تعمد للقتل. قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال. وقيل: لا أعرف ذنبًا فأنا واثق من كل جهة حتى يوجهني ربي إلى ما شاء.